‎دكان «الجوهر» تاريخ و إحسان

في بلدتي المبرز حي العيوني وقبل أربعين سنة كانت طقوس الاستعداد الاستهلاكي لشهر رمضان المبارك تتطلب شراء المقاضي قبل الشهر الكريم بشهر أو شهرين وكان ذلك أمراً مبرراً بالتأكيد باعتبار أن المواد التموينية والأغراض الاستهلاكية وكمياتها محدودة جداً وهذا ينطبق تماماً على منافذ البيع أيضاً التي كانت قليلة حد الندرة، ولهذا السبب كان الناس يبكرون في شراء مقاضي رمضان ويتواصون في سرعة إنجاز هذه المهمة الموسمية والعادة السنوية قبل أن تنفد البضاعة من السوق في الوقت الذي ينشط فيه آنذاك الشراء بالجملة تحسباً لانقطاع إحدى السلع أو ندرتها ومن ثم ارتفاع سعرها بشكل خيالي.


كان دكان اهلي «الجوهر» يتوسط سوق المبرز القديمة مقابلاً لجامع الإمام فيصل بن تركي من الجهة الجنوبية الشرقية، ذلك الدكان العتيق الذي كان «يتقضى» منه غالب أهل مدينة المبرز حاضرة وبادية لسنوات طويلة اكثر من ٨٠ عام تكونت من خلالها علاقة نفسية وثيقة بين المستهلك والبائع قوامها السماحة والثقة والصدق والأمانة


كانت تستقبل في ذلك الدكان طلبات الناس مكتوبة إما على أوراق جريدة أو مجلة قديمة أو مسجلة على جزء مقطوع من التغليفة السميكة لأكياس الأسمنت أو على ورق مسطر من دفاتر «مرزا» الصفراء، وكانت الأغراض تكتب بخطوط رديئة ومتعرجة وحين يستلم عمي عبدالرحمن بن علي جوهر الجوهر الورقة يسلمها للكاتب والمحاسب «عبدالعزيز البطاط» الذي يقوم بدوره بفك تلك الرموز «الهيروغليفية» بمهارة وتمكن ثم يبلغها عمي عبدالوهاب  بن علي الجوهر الجالس على الأرض فيبدأ بتوجيه الحمالين بجلب السلع من المخازن والمستودعات الطينية المجاورة إذ لم يكن للأغراض مستودع واحد بل كانت متعددة ومتفرقة وكل مستودع فيه نوع أو أكثر من «الأرزاق» وفي الوقت الذي كان الحمالون يأتون بالسلع المطلوبة كان عمي عبدالوهاب يستكمل بقية السلع المطلوبة بنفسه فيكيل من الحبوب والبقوليات ويقوم بوزنها بذلك الميزان القديم ذي الكفتين وبالمثاقيل الحديدية سداسية الشكل ومختلفة الحجم، 


وكان العم عبداللطيف بن حسين علي الجوهر احد الشركاء المهمين في تمويل الدكان والبحث عن اعتمادات البضائع من التجار مثل الراشد والجبر والعيسى.  


وكانت البشاشة وحسن التعامل والرفق والإحسان للفقراء والمساكن والمحتاجين صفة غالبة على  كبار اسرة الجوهر اللذين فارقا الحياة الدنيا وبقي ذكرهما الحسن لدى الناس إلى وقتنا الحاضر، فالتجارة والبيع ليسا تحقيق كسب مادي وربح مالي فقط بل الأهم من ذلك بكل تأكيد تكوين السمعة الحسنة والذكر الطيب لدى الناس وبقاؤهما مهما مرت السنون وتعاقبت الأعوام.


كان الناس يتحركون كخلية نحل ويبيعون ويشترون وينقلون «مقاضيهم» على الدواب غالباً وعلى السيارات أحياناً لمن يملك سيارة في ذلك الزمان أو يستطيع أن يستأجر، وبشراء تلك الأغراض الرمضانية يشعر رب الأسرة بالاطمئنان لأنه أنجز المهمة السنوية على أكمل وجه ليتفرغ بعد ذلك للشهر الكريم لعمله ومهنته وكذلك للعبادة من صيام وصلاة راتبة ونافلة من تراويح وقيام وقراءة قرآن وذكر وتسبيح وصلة رحم وزكاة وصدقة وسماع لدروس أئمة المساجد التي تكون عقب صلاة العصر مباشرة وبشكل يومي


وبين زمنين ننتقل إلى زمننا الحاضر الذي كثرت فيه منافذ التسويق وزادت وتعددت فيه السلع وتنوعت بصورة لم يسبق لها مثيل فعلى سبيل المثال في الشارع الرئيس للحي الذي أسكنه توجد أربعة مراكز تسويق من التي تصنف «هايبر ماركت» هذا غير البقالات الصغيرة المنتشرة في كل زاوية وطريق، هذه المراكز التسويقية التي تتنافس سنوياً في تقديم العروض والخصومات بدعم إعلاني وإعلامي كبيرين، فيقع المستهلك في مصيدة تلك العروض المبهرة فيشتري الكميات الضخمة لما يحتاج وما لا يحتاج ويحول منزله إلى مستودع للسلع الذي يرمى ثلاثة أرباع ما يطهى منها يومياً في حاويات النفايات وترمى البقية بعد شهر أو شهرين لانتهاء الصلاحية.


افتقدنا التعامل البسيط والبشاشة والصدق والأمانة والمحبة والألفة التي كانت بين التاجر الجوهر وزبائنه، وانتقلنا للأسف إلى مراكز تسويقية أصبحت «غولاً تموينياً» تتسابق إلى جيب الزبون وميزانيته فتتركها أثراً بعد عين في وقت أصبح فيه الوعي لدى المستهلك وحماية المستهلك كالعنقاء والخل الوفي.

ومن هنا نشكر الاخ المهندس عبدالله بن عبدالرحمن بن علي الجوهر على مبادرة احياء ذكرى (دكان الجوهر) في بيع المواد الغذائية وحسن التعامل والرفق والإحسان للفقراء والمساكن والمحتاجين

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تاريخ أسرة ال جوهر

‎حي العيوني - سكنة عائلات قيادية

قصرك عقلك ..